جميلة ورائعة مقولة من قال:ان اجمل ما في هندسة الحياة ان تبني جسرا من الامل فوق نهر اليأس, ولعل هذا الجسر يحتاج الى امهر المهندسين واشهرهم, لانه ليس من السهولة بل انه من الصعوبة بمكان تشييد وبناء جسر للامل ومن الامل يعبر عليه فوق نهر من اليأس.
الامل هو اكسير الحياة ودافع النشاط فيها ومخفف ويلاتها وباعث البهجة والسرور فيها, انه الامل...به تنمو شجرة الحياة ويرتفع صرح العمران ويذوق المرء طعم السعادة ويحس بهجة الحياة.
يقول الدكتور القرضاوي في كتابه" الايمان والحياة" :( الامل قوة دافعة تشرح الصدرللعمل وتخلق دواعي الكفاح من اجل الواجب وتبعث النشاط في الروح والبدن وتدفع الكسول للجد والمجد للمداومة على جده والزيادة فيه, تدفع لمخفق الى تكرارالمحاولة حتى ينجح وتحفز الناجح الى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه.
ان الذي يدفع الفلاح الى الكدح والعرق امله في الحصاد, والذي يغري التاجر بالاسفار والمخاطر امله في الربح, والذي يبعث الطالب الى الجد والمثابرة امله في النجاح, والذي يحفز الجندي للاستبسال امله في النصر, والذي يهون على الشعب المستبعد تكاليف الجهاد امله في التحرر, والذي يحبب الى المريض الدواء المر امله في العافية والشفاء, والذي يدعو المؤمن ان يخالف هواه ويطيع ربه سبحانه امله في رضوانه وجنته).
ويقول كذلك:( الامل شيء حلو المذاق جميل المحيا في ذاته, تحقق او لم يتحقق), واستمع الى الشاعر العاشق يقول:
اماني من ليلى عذاب كأنما.....................سقتني بها ليلى على ظمأ بردا
منى ان تكن حقا تكن احسن المنى.............. والا فقد عشنا بها زمنا رغدا
واذا كان هذا هو الامل فان ضده وعكسه هو اليأس والتشاؤم, واليأس معناه انطفاء جذوة الامل في الصدر وانقطاع خيط الرجاء في القلب, فهو العقبة الكؤود والمعوق القاهر الذي يحطم في النفس بواعث العمل ويوهي في الجسد دواعي القوة. قال الشاعر
واليأس يحدث في اعضاء صاحبه..................... ضعفا ويورث اهل العزم توهينا
ومصداق هذا الكلام في الحياة جلي وواضح كما يقول الدكتور القرضاوي:( فاذا يئس التلميذ من النجاح نفر من الكتاب والقلم, وضاق بالمدرسة والبيت, ولم يعد ينفعه درس خاص يتلقاه او نصح يسدى اليه, او تهيئة المكان والجو المناسب لاستذكاره, او...او... الا ان يعود الامل اليه, واذا يئس المريض من الشفاء كره الدواء والطبيب والعيادة والصيدلية, وضاق بالحياة والاحياء ولم يعد يجديه علاج الا ان يعود الامل اليه, وهكذا اذا تغلب اليأس على انسان -اي انسان -اسودت الدنيا في وجهه واظلمت في عينه واغلقت امامه الابواب وتقطعت دونه الاسباب وضاقت عليه الارض بما رحبت.
ذلك هو اليأس, سم بطيء لروح الانسان واعصار مدمر لنشاط الانسان, وتلك حال اليائسين ابد الدهر: لا انتاج للحياة ولا احساس بمعنى الحياة.
يقول الدكتور علي الحمادي في كتابه" الكنز الذي لا يكلف درهما": ان من الناس من لا يحبون الا لبس النظارة السوداء على اعينهم, انهم الذين يسرفون في التشاؤم وتضخيم السلبيات ولا يتذكرون الايجابيات والحسنات, فالدنيا عندهم دائما مظلمة سوداء, وتزداد المشكلة سواء عندما ينقلون مشاعرهم وقناعاتهم المظلمة الى الاخرين فيساهمون في تثبيطهم ويكونون معول هدم وتيئيس لمن حولهم من الافراد, مع ان الاسلام حث على التفاؤل ونهى عن التشاؤم واليأس,فقد قال الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام:( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه ولا تيأسوا من روح الله, انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون)آيه 87 سورة يوسف
ويقول الدكتور الحمادي في موقع آخر: :( ومن المهم التنبيه في هذا المقام الى ان تغليب التفاؤل على التشاؤم لا يعني ان يعيش الانسان في الخيال او ان يهمش كل السلبيات والعوائق والمشكلات, فان ذلك افراط في التفاؤل وهو مذموم ولا يؤدي بصاحبه الا الى الفشل والهلاك).
إنه الأمل والتفاؤل والإيجابية في النظر إلى الأشياء والتعامل معها يحولها من حالٍ إلى حال ,كما يقول الشيخ عائض القرني في كتابه الجميل "لا تحزن" : (الذكي الأديب يحول الخسائر إلى أرباح , والجاهل الرعديد يجعل المصيبة مصيبتين , طُرد الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة فأقام في المدينة دولة ملأت سمع الدنيا وبصرها , سُجن الإمام أحمد بن حنبل وجُلد فصار إمام أهل السنة , وحُبس الإمام ابن تيمية فأخرج من سجنه عِلماً جماً , وسُجن الإمام البرسخي في قعر بئر فأخرج عشرين مجلداً في الفقه ،ونُفي أبن الجوزي من بغداد فجوّد القراءات السبع , وأصابت حُمى الموت مالك بن الريب فأرسل للعالمين قصيدته الرائعة الذائعة الصيت التي تعدل كل دواوين شعراء الدولة العباسية ......)
إذا داهمتك داهية فانظر إلى الجانب المشرق منها , وإذا ناولك أحدهم كوب ليمون فأضف إليه حفنة من سُكر واجعل منه شراباً حلواً , وإذا ألقى أحدهم عليك ثعباناً فخذ جلده الثمين واترك باقيه , وإذا لدغتك عقرب فأعلم أنه مصل واقٍ ومناعة حصينة ضد سم الحيات , تكيف في ظرفك القاسي لتخرج منه زهراً وورداً وياسميناً (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم).سجنت فرنسا قبل ثورتها العارمة شاعرين مُجيديْن من شعرائها كان أحدهما متفائلاً والآخر متشائماً , فأخرجا رأسيهما من نافذة السجن , فأما المتفائل فنظر نظرة في النجوم فضحك , وأما المتشائم فنظر إلى الطين في الشارع المجاور فبكى , فأنظر إلى الوجه الآخر للمأساة لأن الشر المحض ليس موجوداً بل هناك خيرٌ ومكسبٌ وفتحٌ وأجرٌ) .
نعم إن الأمل والتفاؤل والإشراق والإيجابية تجعل للحياة طعماً آخر ولوناً آخر، فما أحوجنا إلى البسمة وطلاقة الوجه وانشراح الصدر , به نواجه صعاب الحياة التي تريد أن تطمسنا تحت وقع ثقلها , وما أجمل ما قاله الشاعر إيليا أبو ماضي وهو يتحدث عن صديقه المتشائم واليائس : قال : السماء كئيبة وتجهّما قلت : ابتسم يكفي التجهم في السما !قال : الصبا ولى فقلت له : أبتسم لن يرجع الأسف الصبا المتصرما ! قال : التي كانت سمائي في الهوى صارت لنفسي في الغرام جهنما ! خانت عهودي بعدما ملكتُها قلبي , فكيف أطيق أن أتبسما ! قلت : ابتسم واطرب فلو قارنتها قضيت عمرك كله متألما أي لو أنك تزوجت تلك التي أحببتها وتعلق بها قلبك فما يدريك لعلها ستكون سبب آلامك ومصائبك وهمومك فكان الخير لك أنها ابتعدت عنك وانقلبت عليك , إذن فهذا هو فهم إيليا أبو ماضي صاحب الطلاسم والضياع ، حيث يظهر جلياً أنه يلتقي في فهمه للأمل والتفاؤل مع أصحاب الإيمان . يقول الدكتور القرضاوي : (فالمؤمن الذي يعتصم بالله البر الرحيم , العزيز الكريم , الغفور الودود , ذي العرش المجيد , الفعال لما يريد , فإنه يعيش على أمل لا حد له , ورجاء لا تنفصم عراه , إنه دائماً متفائل , ينظر إلى الحياة بوجه ضاحك ويستقبل أحداثها بثغرٍ باسم لا بوجه عبوس قمطرير .فهو إذا حارب كان واثقاً بالنصر لأنه مع الله، فالله معه , ولأنه لله فالله له : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين *إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات 172 – 173 ، وإذا مرض لم ينقطع أمله في العافية والشفاء :(الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين *وإذا مرضت فهو يشفين) الشعراء 87-88 ، وإذا اقترف ذنباً أو عصى معصية فإنه لا ييأس من المغفرة , مهما يكن ذنبه عظيماً فإن عفو الله أعظم : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً , إنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53 ، وإذا أصابه العسر فإنه لم يزل يؤمن باليسر (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا) ولن يغلب عسرٌ يُسريْن أبداً ، وإذا انتابته نائبة أو كارثة من كوارث الزمان كان على أمل ورجاء من الله أن يأجره في مصيبته ويخلفه خيراً منها : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ، وإذا عادى أحداً أو كره أحداً كان قريباً إلى الصلة والسلام ولين الجانب راجياً في الصفاء والوئام مؤمناً بأن الله يحول القلوب: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم) . وهو إذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق كان على أملٍ بل ويقين أن الباطل إلى زوال وأن الحق إلى ظهور وانتصار: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) ، وهو إذا أدركته الشيخوخة وأشتعل رأسه شيباً لم ينفك يرجو حياة أخرى فيها شبابٌ بلا هموم وحياة بلا موت وسعادة بلا شقاء: (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب , إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) مريم 61-62 .
إن الماديين يقفون عند السنن المعتادة والأسباب الظاهرة لا يطمعون في شيء وراءها ، أما المؤمنون فإنهم يعلون على ظاهر الأسباب وينفذون إلى سر الوجود ، إلى الله تعالى خالق الأسباب والمسببات , الذي عنده من الأسباب الباطنة ما يخفى على إدراك عباده , فلماذا لا يظل هو أملهم ورجاءهم ؟ إنه الله سبحانه يتجه إليه المريض الذي استعصى مرضه على الأطباء يدعوه أملاً بالشفاء , ويتجه إليه المكروب يسأله الصبر والرضا والخلف من كل فائت والعوض من كل مفقود , ويتجه إليه المظلوم آمِلاً يوماً قريباً ينتصر فيه على ظالمه , ويتجه إليه المحروم من الأولاد سائلاً أن يرزقه ذرية صالحة طيبة . لقد طلب إبراهيم الولد وهو شيخ كبير : (رب هب لي من الصالحين) وكان على أمل فتحقق أمله : (إنا نبشرك بغلام عليم) الحجر 52 ، وبكى يعقوب كثيراً حتى ذهب بصره بعد أن طالت غيبة ولده يوسف عنه وبعد مسافة الزمن بينهما إلا أنه كان على أمل باللقاء : (فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً , إنه هو العليم الحليم) يوسف 83 . وزكريا وقد اشتعل الرأس شيباً وليس من مقومات لوجود الذرية بزيادة أن الزوجة كانت عاقراً لا تلد: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداءاً خفيا* قال رب أني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربي شقيا* وأني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا) لكنه كان الأمل والرجاء الذي لم ينقطع : (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) , وهكذا أيوب مع المرض ويونس في بطن الحوت , وموسى في قلب البحر ومحمد صلى الله عليه وسلم في قلب الغار , نعم إنه الأمل والرجاء الذي لا ينقطع مهما كانت الصعوبات .هذه وقائع عرفها التاريخ الذي لا شك فيه وربما أنكر الماديون بعضها أو كلها لأنها تخرج على الأسباب المعتادة للناس , غير أن المؤمنين يوقنون أن الأسباب المعتادة لا تحدُ قدرة الله المطلقة , وليس ثباتها واجباً عقلياً لا يقبل الانفكاك ، ولو جمد العلماء والمخترعون على ما اعتاده الناس وما تعارفوا عليه في عصرهم ما تقدم العلم شبراً ولا فتراً وما وصلنا إلى عصر الذرة والفضاء , ولكنه الأمل والتفاؤل في الكشف والوصول إلى النتائج أوصل العلماء إلى الذي وصلوا إليه) .ما أحوجنا الى بناء جسر الأمل وتحديداً في هذه الأيام التي تدلهِمّ فيها الخطوب ويزداد الكرب على أمتنا ويتكالب علينا فيها الأعداء , في الوقت الذي فيه نرى حالة الوهن التي تصيب الأمة والخيانة التي يشتهر بها القادة والزعماء , وعدم الصدع بكلمة الحق من العلماء ، وحيث تنتشر روح الهزيمة بين قطاعات من الناس , وحيث يراد لنا أن نقبع في خانة اليأس والقنوط من أن واقعنا هذا لن يتغير وأن مرضنا أصعب من أن يشفى وأن كبوتنا أعظم من أن ننهض منها وأن عتمة ليلنا أحلك من أن تنقشع ويطلع الصبح.
إننا بين يدي تيار ونهر التشاؤم واليأس الهادر , لا بد أن نبني جسراً للأمل والتفاؤل عليه نعبر هذه المرحلة بسلام بإذن الله تعالى , مستعينين بالله , ونحن على يقين بأن وعد الله سيتحقق بأن يتم نوره ويظهر دينه ولو كره المشركون ، ونحن نعلم أنها دورة التاريخ ونواميس نهضة الأمم وكبوتها , ونحن مطمئنون إلى أن أمتنا الآن في مرحلة النهضة المباركة والصحوة العظيمة التي قريباً سنرى ثمارها بإذن الله .نعم إنه لا مكان بيننا لليائسين والمتشائمين من الذين أقعدهم اليأس حتى استحال عندهم التغيير , وإنما نحن مع الذين يوقدون الشموع ليضيئوا العتمة ويبددوا حلكتها .وإذا كان يصعب على المتشائمين اليائسين مواجهة تيار اليأس الهادر ونهره الجارف فإن في الأمة من يتلذذون بركوب الصعاب ومواجهة الأخطار والسباحة بعكس التيار, كل ذلك ليس إلا طاعة لله تعالى وسعياً لإعلاء كلمة الدين وعز الإسلام .إننا مع هؤلاء الذين يبنون جسور الأمل ولسنا مع القابعين في جحور اليأس , إننا مع الذين يحبون صعود القمم ولسنا مع الذين يحبون العيش عند السفوح , إننا مع : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
رحم الله قارئاً دعا لنفسه ولي بالمغفرة
{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق