
يروي عباس السيسي رحمه الله فيقول:( دعيت لزيارة مجموعة من الشباب, واستغرق السفر اليهم ثلاث ساعات, وحين وصلت اليهم, وجدتهم قد استقبلوني وهم جلوس, ووجوههم جامدة, ومشاعرهم خامدة, وعيونهم ميتة, قدمني اليهم كبيرهم, فتحدثت اليهم بلا قلب ولا روح, حتى اذا انتهيت من حديثي شكرني, وخرجت كأنني كنت اعزي في ميت, وعدت من حيث اتيت حزينا لما شاهدت ورأيت!!.
ومضت الايام والاسابيع, وجاءني الاخ نفسه الذي دعاني اول مرة, جاء يدعوني لاكرر الزيارة مرة اخرى, فقلت له: الى اين؟ قال: الى الاخوة. قلت له: اهؤلاء اخوة؟ قال نعم. قلت: مستحيل ان يكون هؤلاء عندهم تذوق لمعنى الاخوة, كيف يكونون اخوة وقد جاءهم ضيف قطع اليهم مسافرا اكثر من ثلاث ساعات, جاء اليهم باشواق متلهفة, وعواطف مشتعلة, ونفس منشرحة؟ فيتلقونه بمشاعر جامدة, وهم جلوس كأنهم تلاميذ في مدرسة, لا تربطني بهم سوى علاقة المدرس في الفصل, فاذا انهى الدرس خرج لا يلوي على شيء, لا عواطف ولا مشاعر ولا دعوة تجمع بينهم. لقد تركتكم كاسف البال, اتحسر على جمود العواطف, وفقدان يقظة القلوب, وحياة المشاعر التي هي سر وجودنا وحيويتنا وانتعاشنا
اصاب اخي الخجل والحيرة, ثم بادرني يقول: اذا كان الاخوة قد فاتهم هذا المعنى في اول مرة, فسوف اقوم بالتنبيه عليهم, حتى يتداركوه المرة القادمة, فنظرت اليه وقلت: يا سيدي, ان هذه المواهب الروحية, واللمسات العاطفية, والاريحية, واللطائف النفسية, والذوق, لا تنهض بها توجيهات او اوامر, وانما تنهض بها موحيات قلوب معطرة بالحب, مشتاقة تواقة الى توأمها في العقيدة التي تتأجج بها القلوب).
كلمات لو وضعت في الميزان لرجحت امام طغيان الدنيا وشهواتها التي جعلت القلوب في منأى عن معاني ومفاهيم رائعة في الوصول الى شاطىء الامان.
نعم... الكلمات كثيرة والمعاني غزيرة, والايات والاحاديث مؤيدة لذلك, قال تعالى:{ والذين آمنوا اشد حبا لله} وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين" وكما قال بعضهم:" دعوتنا دعوة حب" " وسنقاتل اعداءنا بالحب".
على هذه المعاني وبمثل هذه الكلمات نشأ من قبلنا, وحتى بدايات دعوتنا كنا نشعر بهذه المعاني تلامس القلوب. تعلمنا ان دعوة الله هي دعوة الحب, وان العمل للاسلام بحاجة الى همة عالية تعلو فوق اليأس والاحباط وان ذلك لا يتأتى الا بالحب.
قال عباس السيسي رحمه الله:" يا شباب, ان الدعوة الى الله فن, والصبر عليها جهاد... والدعوة الى الله حب, والحياة في سبيل الله اشق من الموت في سبيل الله الف مرة, يا شباب, ان الاسلام ذوق, والاسلام لطائف, والاسلام احاسيس ومشاعر, هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية, يتعامل مع القلوب والارواح... هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات,ولا خشونة الكلمات, ولا بالتصدي والتحدي, ولكن بالكلمة الطيبة, والنظرة الحانية, قال تعالى:{ وقولوا للناس حسنا}.
ان العمل لدين الله يحتاج الى عزيمة تقهر النفوس المتكاسلة والقلوب المريضة والاضطراب والتراجع النفسي,ولا يتأتى ذلك الا بالحب, حب الدعوة هو اجمل واغلى واحلى ما في الدنيا, وان حب الدعوة هو نور يجعلك تتحمل كل الصعاب. ان الانتماء لدعوة الله يجب ان يكون انتماء حب, عندها تتمنى ان لا تفارقها بل تقبل عليها
ان حب الدعوة الحقيقي انتماء لا ادعاء, ومظاهر عملية لا كلمات براقة, عمل في الواقع لا شعارات رنانة.ولذلك فان حب الدعوة الحقيقي هو الذي تتجسد فيه الكثير من المعاني, أجملها الامام عباس السيسي في نقاط أذكرها لكم اخوتي أخواتي في الدعوة للفائدة الجليلة التي تحملها:
* جنة يأوي الى ظلها الظليل من لفح نارالدنيا, وواحة يطيب لهم في شذاها البقاء, واريج رائع ينبعث من القلوب المحبة فيجعل الانتماء لها بهجة الحياة, وبذرة تنمو وتثمرفي قلب المحبين, ومتى نضجت تعطي طعما رائعا للحياة وتدفع اصحاب الدعوات للتضحية والفداء من اجلها.
* حصن امان يحول دون السباحة في مستنقع المتساقطين على طريق الدعوة, ويحول دون الخوض في عرض الدعوة أو قادتها بطعن او تجريح, ويحول دون خرق سفينة الدعوة قولا او فعلا.
*ارتفاع فوق سفاسف الامور, وتسام فوق الحياة الدنيا بكل ما فيها من تقلبات وتغيرات ومصاعب,وسلم نرتقي به حتى نصل الى اعلى درجات القرب," وجبت محبتي للمتحابين فيّ".
* قائد عظيم يقود القلوب نحو آفاق اوسع واجمل في الحياة, فيراها المحبون رغم التضييق جنة, " ما يفعل اعدائي بي ان جنتي في قلبي, ان حبسوني فحبسي خلوة, وان قتلوني فقتلي شهادة, وان نفوني فنفيي سياحة".
* استثمار لجميع المواقف- الايجابية والسلبية- وتحويلها الى سلوك ايجابي جدي نافع وخادم للدعوة, واستثمار كافة الطاقات وتسخيرها في خدمة الدعوة.
وما زال عباس السيسي يتحدث عن حب الدعوة الى الله لابناء وبنات الدعوة حتى انه يبين صفات وملامح المحب لدعوته العامل لها فيقول:" المحب لدعوته متجرد لها من كل هوى, يشعر ان كل تكليف وافق هواه فهو محنة, وكل تكليف خالف هواه فهو منحة, والمحب لدعوته يقدمها على ما سواها بما في ذلك مصالحه الشخصية, والمحب لدعوته يحب ما تحب دعوته ويكره ما تكره دعوته, ولذلك قال يوسف عليه السلام:{ السجن احب الي مما يدعونني اليه}, والمحب لدعوته لا يسأل عن العمل ويقول هل هذا تكليف, فالمحب يستوي عنده العمل سواء كان تكليفا ام غيرتكليف, ومن هنا كانت واجبات الاخ العامل, والتي هي في الغالب امور مندوبة ومستحبة ولكنها في حق محب الدعوة واجبات.
والمحب لدعوته لا تتناوشه سهام المغرضين ولا شبهات الطاعنين في دعوته وقيادته, والمحب لدعوته لا تقعده المحن التي تتوالى عليه عن العمل لها, والمحب لدعوته لا تقعده ظروف الحياة المادية عن البذل والتضحية لها, والمحب لدعوته لا تتعارض عنده مصلحة الدعوة مع مصالحه بل هو ومصالحه وقف لله ولدعوته, والمحب لدعوته صابر على الاذى من اجلها, والمحب لدعوته قد يجد من مسئوله بتصرفاته ما يضايقه ولكنه يبقى محبا لدعوته, شعاره ما قاله عثمان بن عفان حينما اغضبه وقال له: ما لك لا ترد, فقال علي:" لو تكلمت لاغضبتك, وليس في قلبي لك الا ما تحب واحب".
والمحب لدعوته يجعل حياته تجسيدا عمليا لمبادئها واهدافها واركان بيعتها, الناس بحاجة الى من يفيض من قلبه على قلوب من حوله, ومن هذا الفيض الرباني يفيضون على من حولهم وبهذا يخرجون من الظلمات الى النور".
فهل استشعرتم هذه المعاني؟ هل حب الدعوة في قلبي وقلبك كما ارادها الله واوصانا بها سلفنا الصالح وائمتنا الافاضل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق