اذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله .. واذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله .. واذا أنس الناس بأحبابهم فأنس أنت بالله .. واذا ذهب الناس الى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون اليهم فتودد أنت الى الله .. ابن القيِّم الجوزيّة ..

السبت، 25 يوليو 2009

شاطىء الامان

الكاتبة:
سوسن مصاروة رئيسة جمعية سند للامومة والطفولة

يروي عباس السيسي رحمه الله فيقول:( دعيت لزيارة مجموعة من الشباب, واستغرق السفر اليهم ثلاث ساعات, وحين وصلت اليهم, وجدتهم قد استقبلوني وهم جلوس, ووجوههم جامدة, ومشاعرهم خامدة, وعيونهم ميتة, قدمني اليهم كبيرهم, فتحدثت اليهم بلا قلب ولا روح, حتى اذا انتهيت من حديثي شكرني, وخرجت كأنني كنت اعزي في ميت, وعدت من حيث اتيت حزينا لما شاهدت ورأيت!!.

ومضت الايام والاسابيع, وجاءني الاخ نفسه الذي دعاني اول مرة, جاء يدعوني لاكرر الزيارة مرة اخرى, فقلت له: الى اين؟ قال: الى الاخوة. قلت له: اهؤلاء اخوة؟ قال نعم. قلت: مستحيل ان يكون هؤلاء عندهم تذوق لمعنى الاخوة, كيف يكونون اخوة وقد جاءهم ضيف قطع اليهم مسافرا اكثر من ثلاث ساعات, جاء اليهم باشواق متلهفة, وعواطف مشتعلة, ونفس منشرحة؟ فيتلقونه بمشاعر جامدة, وهم جلوس كأنهم تلاميذ في مدرسة, لا تربطني بهم سوى علاقة المدرس في الفصل, فاذا انهى الدرس خرج لا يلوي على شيء, لا عواطف ولا مشاعر ولا دعوة تجمع بينهم. لقد تركتكم كاسف البال, اتحسر على جمود العواطف, وفقدان يقظة القلوب, وحياة المشاعر التي هي سر وجودنا وحيويتنا وانتعاشنا

اصاب اخي الخجل والحيرة, ثم بادرني يقول: اذا كان الاخوة قد فاتهم هذا المعنى في اول مرة, فسوف اقوم بالتنبيه عليهم, حتى يتداركوه المرة القادمة, فنظرت اليه وقلت: يا سيدي, ان هذه المواهب الروحية, واللمسات العاطفية, والاريحية, واللطائف النفسية, والذوق, لا تنهض بها توجيهات او اوامر, وانما تنهض بها موحيات قلوب معطرة بالحب, مشتاقة تواقة الى توأمها في العقيدة التي تتأجج بها القلوب).
كلمات لو وضعت في الميزان لرجحت امام طغيان الدنيا وشهواتها التي جعلت القلوب في منأى عن معاني ومفاهيم رائعة في الوصول الى شاطىء الامان.
نعم... الكلمات كثيرة والمعاني غزيرة, والايات والاحاديث مؤيدة لذلك, قال تعالى:{ والذين آمنوا اشد حبا لله} وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين" وكما قال بعضهم:" دعوتنا دعوة حب" " وسنقاتل اعداءنا بالحب".
على هذه المعاني وبمثل هذه الكلمات نشأ من قبلنا, وحتى بدايات دعوتنا كنا نشعر بهذه المعاني تلامس القلوب. تعلمنا ان دعوة الله هي دعوة الحب, وان العمل للاسلام بحاجة الى همة عالية تعلو فوق اليأس والاحباط وان ذلك لا يتأتى الا بالحب.
قال عباس السيسي رحمه الله:" يا شباب, ان الدعوة الى الله فن, والصبر عليها جهاد... والدعوة الى الله حب, والحياة في سبيل الله اشق من الموت في سبيل الله الف مرة, يا شباب, ان الاسلام ذوق, والاسلام لطائف, والاسلام احاسيس ومشاعر, هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية, يتعامل مع القلوب والارواح... هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات,ولا خشونة الكلمات, ولا بالتصدي والتحدي, ولكن بالكلمة الطيبة, والنظرة الحانية, قال تعالى:{ وقولوا للناس حسنا}.

ان العمل لدين الله يحتاج الى عزيمة تقهر النفوس المتكاسلة والقلوب المريضة والاضطراب والتراجع النفسي,ولا يتأتى ذلك الا بالحب, حب الدعوة هو اجمل واغلى واحلى ما في الدنيا, وان حب الدعوة هو نور يجعلك تتحمل كل الصعاب. ان الانتماء لدعوة الله يجب ان يكون انتماء حب, عندها تتمنى ان لا تفارقها بل تقبل عليها

ان حب الدعوة الحقيقي انتماء لا ادعاء, ومظاهر عملية لا كلمات براقة, عمل في الواقع لا شعارات رنانة.ولذلك فان حب الدعوة الحقيقي هو الذي تتجسد فيه الكثير من المعاني, أجملها الامام عباس السيسي في نقاط أذكرها لكم اخوتي أخواتي في الدعوة للفائدة الجليلة التي تحملها:
* جنة يأوي الى ظلها الظليل من لفح نارالدنيا, وواحة يطيب لهم في شذاها البقاء, واريج رائع ينبعث من القلوب المحبة فيجعل الانتماء لها بهجة الحياة, وبذرة تنمو وتثمرفي قلب المحبين, ومتى نضجت تعطي طعما رائعا للحياة وتدفع اصحاب الدعوات للتضحية والفداء من اجلها.
* حصن امان يحول دون السباحة في مستنقع المتساقطين على طريق الدعوة, ويحول دون الخوض في عرض الدعوة أو قادتها بطعن او تجريح, ويحول دون خرق سفينة الدعوة قولا او فعلا.
*ارتفاع فوق سفاسف الامور, وتسام فوق الحياة الدنيا بكل ما فيها من تقلبات وتغيرات ومصاعب,وسلم نرتقي به حتى نصل الى اعلى درجات القرب," وجبت محبتي للمتحابين فيّ".
* قائد عظيم يقود القلوب نحو آفاق اوسع واجمل في الحياة, فيراها المحبون رغم التضييق جنة, " ما يفعل اعدائي بي ان جنتي في قلبي, ان حبسوني فحبسي خلوة, وان قتلوني فقتلي شهادة, وان نفوني فنفيي سياحة".
* استثمار لجميع المواقف- الايجابية والسلبية- وتحويلها الى سلوك ايجابي جدي نافع وخادم للدعوة, واستثمار كافة الطاقات وتسخيرها في خدمة الدعوة.


وما زال عباس السيسي يتحدث عن حب الدعوة الى الله لابناء وبنات الدعوة حتى انه يبين صفات وملامح المحب لدعوته العامل لها فيقول:" المحب لدعوته متجرد لها من كل هوى, يشعر ان كل تكليف وافق هواه فهو محنة, وكل تكليف خالف هواه فهو منحة, والمحب لدعوته يقدمها على ما سواها بما في ذلك مصالحه الشخصية, والمحب لدعوته يحب ما تحب دعوته ويكره ما تكره دعوته, ولذلك قال يوسف عليه السلام:{ السجن احب الي مما يدعونني اليه}, والمحب لدعوته لا يسأل عن العمل ويقول هل هذا تكليف, فالمحب يستوي عنده العمل سواء كان تكليفا ام غيرتكليف, ومن هنا كانت واجبات الاخ العامل, والتي هي في الغالب امور مندوبة ومستحبة ولكنها في حق محب الدعوة واجبات.
والمحب لدعوته لا تتناوشه سهام المغرضين ولا شبهات الطاعنين في دعوته وقيادته, والمحب لدعوته لا تقعده المحن التي تتوالى عليه عن العمل لها, والمحب لدعوته لا تقعده ظروف الحياة المادية عن البذل والتضحية لها, والمحب لدعوته لا تتعارض عنده مصلحة الدعوة مع مصالحه بل هو ومصالحه وقف لله ولدعوته, والمحب لدعوته صابر على الاذى من اجلها, والمحب لدعوته قد يجد من مسئوله بتصرفاته ما يضايقه ولكنه يبقى محبا لدعوته, شعاره ما قاله عثمان بن عفان حينما اغضبه وقال له: ما لك لا ترد, فقال علي:" لو تكلمت لاغضبتك, وليس في قلبي لك الا ما تحب واحب".
والمحب لدعوته يجعل حياته تجسيدا عمليا لمبادئها واهدافها واركان بيعتها, الناس بحاجة الى من يفيض من قلبه على قلوب من حوله, ومن هذا الفيض الرباني يفيضون على من حولهم وبهذا يخرجون من الظلمات الى النور".
فهل استشعرتم هذه المعاني؟ هل حب الدعوة في قلبي وقلبك كما ارادها الله واوصانا بها سلفنا الصالح وائمتنا الافاضل؟


رحم الله الامام البنا لما قال:" ... ولكنكم روح جديدة تسري في قلب هذه الامة فتحييه بالقران, ونورجديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله, وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم".
ما اعظمها دعوتنا, نقلنا الله بها من الموات الى الحياة, ومن نارالجهل الى جنة الفهم الصحيح الشامل, ما اروعها من دعوة بجلساتها التي تشرح الصدر وتذهب ما به من هموم واحزان, وبها يذهب ضيق الصدر وسآمة النفس, بها الانس والبهجة والسعادة والراحة.
كم منا من تاه في ظلمات الجهل وسراديب الدنيا وشهواتها واهوائها؟ كم منا من لم يتذوق طعم الطمأنينة والراحة وبات ليله ونهاره قلقا محتارا؟ فجاءت الدعوة فانقذنا الله بها من الغرق, وهدانا من الضلال, وداوانا من الاسقام.

دعوتي هيكل حياتي, هي جنتي في الدنيا, لا تحلو ايامي وساعاتي ودقائقي الا في ظلها, دعوتي هي بيتي الدافىء الذي اشعربالراحة فيه, وان خرجت منه تعبت, هي حجابي ان تركته تكشفت, هي سعادتي ان ابتعدت عنها شقيت, اتمثل قول ذاك الشاب لامه:" يا اماه دعوتي رأس مالي لو خسرته افلست, ولو قعدت عنه ضعت!! ايسعدك يا اماه مني ان يزيد مالي ام ان ينمو عند الله اجري برجل نقله الله بي من الضلالة الى الهداية؟! اتفرحين لي عندما انام ملء جفني حتى تنتفخ عيناي فاستريح من الهم والارق ام عندما تقلقني بالليل آهات اليتامى وانات الاسرى فاقوم فادعو له..!!
اخوتي في دعوتي...انما نحن لبنات يبنى بنا حائط العز وقلعة الدين ومجد الامة, وشرف لمثلي ومثلك ان يموت وهو لبنة من لبناتها حتى اذا ما بنيت وشيدت دخلها احفادنا بعز الاسلام فدعوا لنا.
هذه الدعوة التي شرفنا الله بان نكون من خدمها لا نقوم بها الا اذا تآلفت قلوبنا كما تآلفت قلوب الصحابة والتابعين والصالحين عليها, لا تقوم الا اذا بنيت على الحب في الله," ... ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما وان يحب المرء لا يحبه الا لله..." لا نفلح والله الا اذا كانت قلوبنا على بعضنا, لا تنافر ولا تحاسد ولا تباغض, لا غيبة ولا نميمة...
تعالوا نتناصح باللين والكلمة الطيبة والرأفة, فما اجمل الحياة عندما نجد من حولنا يرفرفون بكلماتهم الناصحة المحبة للخير بالكلمة الطيبة المثمرة...وقد اتخذوا من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في ذلك خير قدوة, كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:" رحم الله امرأ اهدى الي عيوبي", فالنصيحة الجميلة الرقيقة المغلفة بروح الاخوة الايمانية الصادقة من الناصح الى المنصوح مباشرة دون وسائط لهي من اجمل الهدايا التي تقدم خاصة اذا خالطتها البشاشة واللين.

في صحراء.. مشى صديقان يعبران الطريق, فضرب الرفيق صديقه ضربة في الوجه مؤلمة, فكتب الصديق على الرمل شاكيا همه وخاطّاً ما آلمه:" اليوم ضربني اعز اصدقائي" ومضى الصديقان فاذا بواحة قريبة فقررا على الفور السباحة, وما هي الا لحظات حتى علقت قدم الصديق في الرمال وبات الغرق وشيكا, فهب رفيقه يشق الطريق فانقذه...فانتفض الصديق وحفر على الحجر" اعز اصدقائي انقذ حياتي" فسأله لم كانت الاولى على الرمل مكتوبة والثانية على الصخرمنحوتة؟ فقال: الاولى كانت اذية ولست والله اجعلها مطية, تركتها لرياح التسامح تمحوها, واما الثانية فليس ابقى من النقش على الحجر, صنائع المعروف لا تمحوها الظروف وتبقي في القلب لكم حبا منزلا ولا تذر للسوء عليه مدخلا.

هكذا هم المتآخون المتحابون في الله, جمعتهم الدعوة تحت ظلالها, فليس لهم ان يتركوا هذه الظلال الوارفة مهما كانت الظروف, انها شاطىء الامان الذي نلجأ اليه.
يا ابناء وبنات دعوتي...كل الناس تفترق الا القلوب التي تلاقت وتحابت في الله فان موعدها الجنة, فلنكن من اهلها.
________________
توقيعي: تبسمك في وجه اخيك صدقة

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق