اذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله .. واذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله .. واذا أنس الناس بأحبابهم فأنس أنت بالله .. واذا ذهب الناس الى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون اليهم فتودد أنت الى الله .. ابن القيِّم الجوزيّة ..

الاثنين، 6 يوليو 2009

حتى تذبل اخر وردة

الكاتبة: سوسن مصاروة, رئيسة جمعية سند للامومة والطفولة

الاخوة في الله, والمحبة الصادقة في الله التي تجمع قلوب المؤمنات ربما باتت سلعة نادرة في مجتمعنا, ولا اقصد بالكلام الشعارات المجردة من الاحاسيس والعواطف الرقراقة, فما اكثر الشعارات التي ترفع ولكنها من الداخل فارغة, وانما اردت تلك العبارة التي تحمل في معناها الكثير, والتي تخرج من القلب لتلامس القلب .
والمحبة في الله هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون, واليها نظر العاملون, والى علمها شمر السابقون,وعليها تفانى المحبون, وبروح نسيمها تروح العابدون, فهي قوت القلوب وغذاء الارواح وقرة العيون, وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الاموات, والنورالذي من فقده فهو في بحار الظلمات, والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الاسقام, واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم والام, انها المحبة التي ذهب اهلها بشرف الدنيا والاخرة, اذ لهم من معية محبوبهم اوفر نصيب, انه حب الله وحب من احب الله,وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه), وعن ابن عمر قال: " فانك لا تنال الولاية الا بذلك ولا تجد طعم الايمان حتى تكون كذلك".

.
وكلنا ندرك معنى قصة ذاك الرجل الذي زار اخا له في قرية, فارصد الله له ملكا على مدرجته, فقال:( اين تريد؟ قال: اخا لي في هذه القرية, فقال: هل له عليك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا, الا اني احبه في الله, قال الملك: فاني رسول الله اليك ان الله احبك كما احببته)رواه مسلم
.
ليست الاخوة مجرد شعارات وكلمات ننطق بها, بل هي كما قال الامام البنا:ان ترتبط القلوب والارواح برباط العقيدة, وهي اوثق الروابط واغلاها, والاخوة اخت الايمان, واول القوة قوة الوحدة, ولا وحدة بغير حب, واقل الحب سلامة الصدر, واعلاه مرتبة الايثار( ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة) والاخت الصادقة ترى اخواتها اولى بنفسها من نفسها, لانها" ان لم تكن بهن فلن تكون بغيرهن, وهن ان لم يكنّ بها كن بغيرها", ( وانما ياكل الذئب من الغنم القاصية),( والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)وهكذا يجب ان نكون ..
.
انها مدرسة الدعوة التي جمعت قلبي وقلبها على حب الله وطاعته والعمل من اجل دعوة الله, انه الحب الاخوي الذي جعله الله في قلوبنا ليس لتحقيق مصلحة دنيوية ولا لتنفيذ حاجة مؤقتة ولا لهدف حددناه نصبو الى تحقيقه...ثم ينتهي كل شيء, بل هي الاخوة والمحبة المتينة, جذورها ثابتة في القلب وفروعها ممتدة للاعلى تتباهى بانها قائمة من اجل الله, قال صلى الله عليه وسلم:( ان من عباد الله اناسا, ما هم بانبياء ولا شهداء, يغبطهم الانبياء والشهداءيوم القيامة بمكانتهم من الله, قالوا: من هم؟قال: قوم تحابوا بروح الله, على غيرارحام بينهم, ولا اموال يتعاطونها, فوالله ان وجوههم لنور, وانهم لعلى نور, لا يخافون اذا خاف الناس, ولا يحزنون اذا حزن الناس), وهذا ما نصبو اليه, في الدنيا التقينا, ولمدة محدودة... واملنا ان نكون ممن يغبطوا يوم القيامة .

.
انها الاخوّة والمحبة التي تجعل الفرد منا يضحي بنفسه وماله من اجل اخيه الذي احبه, جاء جندي الى رئيسه فقال له: صديقي لم يعد من ساحة المعركة... اطلب منك الذهاب للبحث عنه, فقال الرئيس: الاذن مرفوض,لا اريدك ان تخاطر بحياتك من اجل رجل من المحتمل انه قد مات, وذهب الجندي دون ان يعطي اهمية لرفض رئيسه, وبعد ساعة عاد الجندي وهو مصاب بجرح مميت حاملا جثة صديقه, قال الرئيس معتزا بنفسه: لقد قلت لك انه قد مات, قل لي اكان يستحق منك كل هذه المخاطرة؟ اجاب الجندي وهو يحتضر: بكل تاكيد سيدي, عندما وجدته كان لا يزال حيا, واستطاع ان يقول لي:( كنت واثقا انك ستأتي) .

.
انه الحب الذي كان في قلب رسول الله لاصحابه جميعا رضي الله عنهم, ونمثل لذلك حبه لزيد بن حارثة حيث كان يشتاق اليه اذا غاب, ويفرح اذا رآه, ويلقاه لقاء لا يحظى به احد, فقد غاب عنه يوما, وعندما عاد وسمع صوته قام اليه عريانا كما قالت ام المؤمنين عائشة الا مما يستر عورته, ففتح له الباب فاحتضنه وقبله .
.
بل هي المحبة الصادقة التي جمعت قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذا الفاروق كان دائم الانس بابي بكر نهارا, يفترقا ليلا ثم يلتقيا فجرا,فيقول الفاروق للصديق شوقا وحبا:" يا لها من ليلة طويلة", نعم, لان ميراث المحبة يتلألأ في الارواح التي يختصها الله لمحبته ويصطفيها لعبادته, وهذه هي القلوب التي صنعت على عين الله .
.
وهذا عمربن الخطاب يصلي الفجر يوما بالناس, ثم يلتفت فيقول: اين معاذ؟ قال: ها أنذا يا امير المؤمنين, فقال عمر: لقد تذكرتك البارحة فبقيت اتقلب في فراشي حبا وشوقا اليك, فتعانقا وتباكيا .
.
الود يبقى وحب الله يجمعنا ........على الاخاء وطيب القول قد عبقا
والقلب يخفق ان هبت نسائمكم .....فصادق الود يجلو الهم والارقا
والله يجزي اضعافا مضاعفة....... لمن كان لصاحبه ... مستبقا
.
وما اعظم ما عبر عنه الشاعر من مشاعرلما قال:
قال لي المحبوب لما زرته .........من ببابي قلت بالباب انا
قال لي اخطات تعريف الهوى...... حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عام ... فلما جئته .........اطرق الباب عليه موهنا
قال لي من انت قلت انظر فما ......ثم الا انت بالباب هنا
قال لي احسنت تعريف الهوى..... وعرفت الحب فادخل يا انا
.
وهذا ما ترجمه سلفنا الصالح لما تعاملوا فيما بينهم بهذه الروح حيث علموا ان الاخوة في الله والمحبة فيه منحة قدسية واشراقة ربانية ونعمة الهية يقذفها الله تعالى في قلوب المخلصين من عباده, ارتبطت قلوبهم وارواحهم برباط العقيدة, فتذوقوا حلاوة هذه النعمة في اوقات الشدة والعافية والمحن والابتلاءات, فكانت الكلمات المضيئة كقول عمر-وما اكثراضاءاته-:" ما اعطي عبد بعد الاسلام خيرا من اخ صالح فاذا راى احدكم ودا من اخيه فليتمسك به"
.
اما فتح الموصلي فقد ذهب الى صديقه عيسى القادر فلم يجده فقال للجارية: اعطيني كيس نقوده, فاخرجته له, فأخذ منه درهمين ومضى, ولما عاد عيسى الى بيته اخبرته الجارية بما حدث فلم ينتفض ولم يغضب, بل قال لها: ان كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله, فلما تأكد مما قالت اعتقها...فهل وصلت الاخوة فيما بيننا الى هذا الحد؟!
.
وهكذا أدرك معنى الاخوة الباقية الزاهد محمد بن يوسف حين ذكر امامه الاخوان قال:" واين مثل الاخ الصالح؟ اهلك يقسمون ميراثك, وهو تفرد يدعو لك وانت بين اطباق الثرى"
.
وقد صنف الحكماء الاخوان الى ثلاثة: مخالب, محاسب ومراغب, اما المخالب فهو الذي ينال من معروفك ولا يكافئك, والمحاسب هو الذي يعطيك بقدر مايصيب منك, اما المراغب فهو الذي يرغب في مواصلتك بغير طمع!! فمن اي الاخوان انت لاخوانك؟ ومن اي الاخوات انت لاخواتك؟
.
واقول لمن احببتها في الله ما قاله الشاعر:
عاهدتكم احبتي ما دمت حيا..... فاني على دار الوفاء سأبقى
فان باعدتنا الليالي دهورا....... الا ان حبكم في الله يرقى
اجوب بذكريات الاخاء وهل .....مثل اخائكم يوما سألقى
.
ما اجمل ان يكون لنا احباب, نفرح لرؤيتهم, ونطرب لسماع صوتهم, نحزن لحزنهم ونسعد لسعادتهم, نهاتفهم للاطمئنان عليهم, نشتاق اليهم ان غابوا عنا مع انهم في قلوبنا لا يغيبون, ونشتاق اليهم ان كانوا معنا لان كلامهم درر لا نمل سماع رنينها, قد نختلف في الرأي مرة, وقد يحتد النقاش مرات... ولكن تبقى القلوب على العهد والوفاء, على الحب والاخاء, قد نحسد على هذه المحبة, ولكنها ما دامت محبة في الله ولله ومع الله فمم نخاف؟!
.
وما اعظمها تلك المكرمة التي اهدانا اياها الحبيب صلى الله عليه وسلم اذ يقول:" تهادوا تحابوا", فما احلاها تلك الهدية التي تصلك ممن ربطت بين قلبيكما المحبة الصادقة والاخوة في الله, ارسلت لي اخت احبها حبا لا يعلم مقداره الا الله باقة من الورد الجوري الاحمر في زهرية جميلة وذيلت الباقة ببطاقة كتبت عليها كلمات رقراقة عذبة, قالت:" احبك حتى تذبل اخر وردة من هذه الباقة"
.
بداية استغربت وقلت كم ستعيش تلك الزهرات؟ اسبوعا...شهرا... في النهاية ستذبل, فهل سينتهي حبها لي؟ جلست امام باقة الورد انظر اليها وابكي... وفي اليوم الثاني لاحظت ان اطراف الوردات الجورية قد بدا عليها السواد قليلا... وفي اليوم الثالث نظرت اليها بتمعن اكثر فلاحظت ان وردة قد توسطت الباقة لم تتغير, ما زالت تحتفظ بحمرتها القانية, امسكتها فاذا هي مصنوعة من المخمل الوردي( اصطناعية) وهل يذبل الاصطناعي؟ وعليه فلن ينتهي حبها لي! كم كنت سعيدة!! كيف لا ولي اخت اهدتني لوحة طرزتها بخيوط حريرية تقول:" لو القلوب تهدى لاهديتك قلبي" كيف لا وهي التي قالت يوم ان شعرتُ بالم شديد في عيني:" ساعطيك عينا واحدة وابقي الاخرى كي اراك بها", كيف لا وهي التي تؤثرني على نفسها في كثير من الامور لا يسع المقام لذكرها
.
ان من بواعث الاطمئنان وانشراح الصدور... الحب في الله والحب لله, ولا يذوق حلاوته الا من عاشه قولا وفعلا, وتذوق ثماره ولمسها وعاينها في حياته وحياة الاخرين, ولذلك يقول الله تعالى يوم القيامة:" اين المتحابون بجلالي؟ اليوم اظلهم في ظلي يوم لا ظل الا ظلي" فهل اكون انا وانت منهم؟
.
غاليتي: يا من احببتها واحبتني في الله ومن اجل الله... الحب في الله مساحة كبيرة وارض فسيحة نباتها الصدق والاخلاص وماؤها التواصي بالحق ونسيمها حسن الخلق وحارسها الدعاء, فاهنىء نفسي اني احبك في الله واشهده على حبك فيه واساله ان يجمعنا في جنات النعيم, اللهم انك اعطيتني خير احباب في الدنيا دون ان اسألك...فلا تحرمني صحبتهم في الجنة وانا اسالك...ففي الدنيا بدانا... وفي الجنة نلتقي .

هناك تعليق واحد:

  1. غاليتي:
    نسجت هذه الكمات بقلمك المتألق في روعته,واللامع في همسه.
    دام قلبك ينبض بالحب, ودام قلمك نابضا بكل ما هو جميل.
    رائعة انت كعادتك
    كم احبك في الله

    ردحذف